"يا عمّاه! لو لا أنّه لا ينبغي للمودّع أن يسكت وللمشيّع أن ينصرف; لقصر الكلام وإن طال الأسف، وقد أتى من القوم إليك ما ترى، فضع عنك الدنيا بتذكّر فراغها، وشدّة ما اشتد منها برجاء ما بعدها، واصبر حتى تلقى نبيّك
صلى الله عليه وآله وسلم
وهو عنك راض"
.
تلك هي كلمات الإمام الحسن المجتبى عليه السلام
وهو يودّع ـ مع أبيه وأخيه وعمّه عقيل وابن عمّه عبد الله بن جعفر وابن عبّاس ـ أبا ذرّ الصحابي الجليل الذي جاهد وناضل في سبيل الدين والحقّ وما لاقى من اضطهاد وإهانة وبلاء حتى قضى غريباً وحيداً في "الربذة" منفاه .
وهي كلمات ناطقة معبّرة عن موقف عميق تجاه تصرّفات وأعمال الخط الحاكم، وهو بكلماته هذه يساهم في تحقيق ما كان يرمي إليه أبو ذرّ من أهداف، حيث كان لا بدّ من إطلاق الصرخة لإيقاظ الأُمة من سباتها وتوعيتها على حقيقة ما يجري وما يحدث، وإفهامها أنّ الحاكم لا يمكن أن يكون أبداً في منأىً عن المؤاخذة، ولا هو فوق القانون، وإنّما هو ذلك الحامي له والمدافع عنه، فإذا ما سوّلت له نفسه أن يرتكب أيّة مخالفة أو أن يستغلّ مركزه في خدمة أهوائه ومصالحه الشخصيّة; فبإمكان كلّ شخص من المسلمين بل من واجبه أن يعلن كلمة الحقّ، ويعمل على رفع الظلم والانحراف .
ومن جهة أخرى فإنّه إذا كانت الظروف لا تسمح لأمير المؤمنين وسبطيه عليهم السلام
وآخرين ممن ساروا على خطّهم لأن يقفوا موقف أبي ذرّ; فإنّ
__________
عليهم ـ على الأقل ـ أن يعلنوا رأيهم الذي هو رأي الإسلام فيه وفي مواقفه، فإنّ ذلك من شأنه أن يعطي موقفه العظيم ذلك بُعداً إعلاميّاً وعمقاً فكريّاً وسياسيّاً يحمي تلك المعطيات والنتائج التي ستنشأ عنه .
وإذا تأمّلنا في كلمات الإمام الحسن عليه السلام
لأبي ذرّ في ذلك الموقف; فإنّنا نجدها تتضمّن عميق أسفه لما فعله القوم بأبي ذرّ، ثم تشجيعه وشدّ أزره في موقفه، ويعتبر أنّ فيه رضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ومن ثم رضى الله سبحانه وتعالى .
كما أنّه يحاول التخفيف عن أبي ذرّ، بعد إعطائه الرؤية الصحيحة التي من شأنها أن تخفّف من وَقْعِ المحنة عليه، وتسهّل عليه مواجهة البلايا التي تنتظره، وذلك حينما يأمره عليه السلام
بأن يضع عنه الدنيا بتذكّر فراغها، وشدّة ما اشتدّ منها برجاء ما بعدها .