استمرّ القتال أياماً أظهر خلالها أصحاب الإمام صبرهم وتفانيهم من أجل انتصار الحقّ ، ثمّ إنّ الإمام عليه السلام
قام خطيباً يحثّ على الجهاد فقال :(أيّها الناس ! قد بلغ بكم الأمر وبعدوّكم ما قد رأيتم ، ولم يبق منهم إلاّ آخر نفس ، وإنّ الأمور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأوّلها وقد صبر لكم القوم على غير دين حتى بلغنا ، منهم ما بلغنا وأنا غادٍ عليهم بالغداة أحاكمهم إلى الله عزّ وجلّ)
.
فبلغ ذلك معاوية وقد بدت الهزيمة على أهل الشام فاستدعى عمرو بن العاص يستشيره ، وقال له : إنّما هي الليلة حتى يغدو عليّ علينا بالفيصل فما ترى ؟
قال عمرو : أرى أنّ رجالك لا يقومون لرجاله ولست مثله ، وهو يقاتلك على أمر وأنت تقاتله على غيره ، أنت تريد البقاء وهو يريد الفناء ، وأهل العراق
ــــــــــــ
يخافون منك إن ظفرت بهم وأهل الشام لا يخافون عليّاً إن ظفر بهم ، ولكن ألقِ إليهم أمراً إن قبلوه اختلفوا وإن ردّوه اختلفوا ،أ
ُدعهم إلى كتاب الله حكماً فيما بينك وبينهم
.
فأمر معاوية في الحال أن ترفع المصاحف على الرماح ، ونادى أهل الشام : يا أهل العراق ! هذا كتاب الله بيننا وبينكم من فاتحته إلى خاتمته من لثغور أهل الشام من بعد أهل الشام ومن لثغور أهل العراق بعد أهل العراق ؟
وكانت هذه الدعوى المضلّلة كالصاعقة على رؤوس جيش الإمام ، فهاج الناس وكثر اللغط بينهم ، وقالوا : نجيب إلى كتاب الله وننيب إليه، وكان أشدّ الناس في ذلك أحد كبار قادة جيش الإمام عليّ الأشعث بن قيس .
فقال لهم الإمام عليه السلام
:(عباد الله ! امضوا على حقّكم وصدقكم وقتال عدوّكم ، فإنّ معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط وحبيب بن أبي مسلمة وابن أبي سرح والضحّاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، أنا أعرف بهم منكم ، قد صحبتهم أطفالاً ثمّ رجالاً فكانوا شرّ أطفال وشرّ رجال ، وَيْحَكُم ! والله ما رفعوها إلاّ خديعةً ووهناً ومكيدةً ، إنّها كلمة حقّ يراد بها باطل)
.
فخاطبوا أمير المؤمنين باسمه الصريح قائلين : يا عليّ ، أجب إلى كتاب الله عزّ وجلّ إذ دعيت إليه وإلاّ ندفعك برمّتك إلى القوم أو نفعل كما فعلنا بابن عفّان .
ولم يجد الإمام عليه السلام
مع المخدوعين سبيلاً فقال :فإن تطيعوني فقاتلوا وإن تعصوني فاصنعوا ما شئتم
.
وكان في ساحة المعركة مالك الأشتر يقاتل ببسالة ويقين حتى كاد أن يصل إلى معاوية فقالوا لأمير المؤمنين : ابعث إلى الأشتر ليأتينّك ولكنّ الأشتر لم ينثنِ عن عزمه في القتال ، لأنه يعلم أنّ الأمر خدعة فهدّدوه بقتل الإمام عليه السلام
، فعاد الأشتر يؤنّبهم فقال لهم : خُدعتم والله فانخدعتم ودُعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم ، يا أصحاب الجباه السود كنّا نظن أنّ صلاتكم زهادة إلى الدنيا وشوق إلى لقاء الله ، فلا أرى فراركم إلاّ إلى الدنيا من الموت.
ــــــــــــ
وأقبل الناس يقولون قد رضي أمير المؤمنين ، والإمام عليه السلام
ساكت لا يفيض بكلمة مطرق الرأس حزيناً ، فقد انطلت على جيشه فتمرّد عليه ، ولم يعد باستطاعته أن يفعل شيئاً ، وقد أدلى عليه السلام
بما مني به بقوله :(لقد كنت أمسِ أميراً فأصبحت اليوم مأموراً ، وكنت بالأمسِ ناهياً فأصبحت اليوم منهيّاً)
.