من أخطر المشاكل التي تواجهها الرسالات والعقائد هو تصدّي الفئات
ــــــــــــ
العاجزة والفارغة فكرياً للدفاع عنها أو تطبيقها ، وحين يتعرّض المتصدّون للزعامة للاختبار لمعرفة رأي الرسالة ومدى علمهم بها فإنّ سكوتهم أو اختلافهم سيزرع شكّاً لدى الجماهير ويزعزع ثقتهم بالرسالة ومقدرتها على مجاراة الحياة ، ومن ثَمّ يتحوّل الشكّ إلى حالة مرضية تجعل الأمة تتقاعس عن التفاعل مع الرسالة أو الدفاع عنها في معترك الصراعات وخضمّ الأزمات ، ومن هنا نجد تصدّي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
لكلّ قضيّة غامضة أو مجهولة تبدو هنا أو هناك في حياة الأمة حيث يعطي الموقف الواضح للرسالة منها ، كما ترى ذلك جليّاً في سيرة الإمام عليّ عليه السلام
من بعده خلال حكم الخلفاء الثلاثة حين كان يظهر للناس عجزهم وقصورهم العلمي والعملي ، إذ فسح عليه السلام
المجال إلى أقصاه للبحث والسؤال عندما تسلّم زمام الحكم.
وحين أدركت الفئة الحاكمة أنّها ليست المؤهّلة للحكم وأنّها قاصرة علمياً ؛ اتّخذت عدّة إجراءات لمعالجة هذه المثالب منها :
١ ـ منع نشر أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
لما فيها من التوجيه العلمي والبعث نحو الوعي والفاعلية في الحياة ، إضافةً إلى أنّ أحاديث الرسول تعلن بوضوح أنّ أهل البيت هم المعنيّون بالخلافة وشؤون الرسالة دون من عداهم ، ومن هنا نعلم السرّ في رفع شعار (حسبنا كتاب الله) الذي تحدّى قائله به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
في مرضه عندما أراد أن يدوّن كتاباً لن تضلّ الأمة من بعده .
ويبدو أنّ ظاهرة تحديد أو منع نشر أحاديث النبيّ بدأت قبل هذا التأريخ ، وذلك عندما منعت قريش عبد الله بن عمرو بن العاص بن كتابة الأحاديث
، كما قامت السلطة الحاكمة بحرق الكتب التي تضمّنت نصوصاً من أحاديث الرسول
.
ــــــــــــ
٢ ـ إنّ ظاهرة النهي عن السؤال عمّا لا يُعلم من معاني الآيات القرآنية تعني تجريد الأمة من سلاح البحث والتحقيق والتعلّم للقرآن نفسه بعد عزل السنّة عن القرآن ، والاهتمام بظواهر القرآن من دون فسح المجال للتدبّر والتفقّه في آياته وأحكامه حتى أوصى عمر عمّاله قائلاً : (جرّدوا القرآن وأقلّوا الرواية عن محمّد وأنا شريككم) بل إنّه عاقب كلّ من يسأل عن تفسير آيات القرآن
.
٣ ـ فتح باب الاجتهاد في مقابل النصّ ، فقد اجتهد أبو بكر في جملة من الأحكام من دون أن يستند إلى نصّ قرآني أو حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
، ومن ذلك مصادرة تركة النبيّ ومنع أهل البيت من حقّهم في الخمس ، وإحراقه الفجاءة السلمي
وفتواه في مسألة الكلالة
وفتواه في إرث الجدّة
، كما اجتهد عمر بن الخطّاب في التمييز في العطاء خلافاً لسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
واجتهد في منع متعتي الحجّ والنساء وغيرها ممّا تجده في كتاب (النصّ والاجتهاد)
، وقد اجتهد عثمان بن عفّان في إسقاط القود عن عبيد الله بن عمر
وتأوّل في جملة من الأحكام الصريحة خلافاً لما قرّره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
حتى ثار عليه المسلمون كما عرفت .
كلّ هذه الأمور وغيرها أثارت للدولة الإسلامية وللأمة المسلمة الكثير من المصاعب والمصائب التي كانت السبب الرئيس في انحراف المسيرة المقرّرة للرسالة الإسلامية ووقوع الكثيرين في شِباك الفتن والضلالة حتى قال الإمام عليّ عليه السلام
عن ذلك :
ــــــــــــ
(إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تتّبع وأحكام تبتدع ، يخالف فيها كتاب الله ، ويتولّى عليها رجالٌ رجالاً على غير دين الله ، فلو أنّ الباطل خلص من مزاج الحقّ ؛ لم يخف على المرتادين ، ولو أنّ الحقّ خلص من لبس الباطل ، انقطعت عنه ألسن المعاندين ، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه ، وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى)
.