روي أنّ حواراً وقع بين عمر وابن عباس في شأن الخلافة .
قال عمر : أما والله ، إنّ صاحبك لأولى الناس بالأمر بعد رسول الله ، إلاّ أنّنا خفناه على اثنتين ، قال ابن عباس : فما هما يا أمير المؤمنين ؟ قال عمر : خفناه على حداثة سنّه ، وحبّه بني عبد المطلب .
وفي بعض مجالس عمر بن الخطاب وقد جلس إليه نفر منهم عبد الله بن عباس ، فقال له عمر : أتدري يا ابن عباس ما منع الناس منكم ؟ قال ابن عباس : لا يا أمير المؤمنين ، قال عمر : لكنّني أدري ، قال ابن عباس : فما هو ؟ قال عمر : كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوّة والخلافة ، فتجحفوا الناس جحفاً فنظرت لأنفسها فاختارت ، ووفقت فأصابت .
فردّ عليه ابن عباس : أيميط أمير المؤمنين عنّي غضبه ؟ فأمّنه عمر قائلاً : قل ما تشاء .
ــــــــــــ
فقال ابن عباس : أمّا قولك : إنّ قريشاً كرهت فإنّ الله تعالى قال لقوم :
(
ذلِكَ بِأَنّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ
)
وأمّا قولك : إنّا كنّا نجحف فلو جحفنا بالخلافة جحفنا بالقرابة ، ولكنّا قوم أخلاقنا من خلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
الذي قال ربّه فيه :
(
وَإِنّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ
)
وقال له :(
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
)
وأمّا قولك : إنّ قريشاً اختارت فإنّ الله تعالى يقول :(
وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ
)
، وقد علمت يا أمير المؤمنين أنّ الله اختار من خلقه من اختار ، فلو نظرت قريش حيث نظر الله لوفّقت وأصابت .
فتفكّر عمر هُنيئة ثمّ قال (وقد آذاه من ابن عباس هذا الحديث الصريح) : على رسلك يا ابن عباس ، أبت قلوبكم يا بني هاشم إلاّ غشّاً في أمر قريش لا يزول ، وحقداً عليها لا يحول .
قال ابن عباس : مهلاً يا أمير المؤمنين ، لا تنسب قلوب بني هاشم إلى الغش ، فهي من قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
الذي طهّره وزكّاه ، وإنّهم لأهل البيت الذين قال لهم الله :
(
إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً
)
.
ثمّ قال ابن عباس : وأمّا الحقد فكيف لا يحقد من غُصب شيئه ويراه في يد غيره ؟ فغضب عمر وصاح ـ وقد حضره في هذه الآونة أمر كان يكتمه ـ ما أنت يا ابن عباس ! إنّي قد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك به فتزول منزلتك عندي .
قال ابن عباس : وما هو يا أمير المؤمنين ؟ أخبرني به فإن يك باطلاً فمثلي أماط الباطل عن نفسه ، وإن يك حقّاً فإنّ منزلتي عندك لا تزول به .
قال عمر : بلغني أنّك لا تزال تقول : اُخذ هذا الأمر منّا حسداً وظلماً .
ــــــــــــ
فلم ينكص ابن عباس ولم يتزحزح عن مواطئ قدميه ، بل قال : نعم حسداً وقد حسد إبليس آدم فأخرجه من الجنة ، ونعم ظلماً وإنّك لتعلم يا أمير المؤمنين صاحب الحقّ من هو يا امير المؤمنين ، ألم تحتجّ العرب على العجم بحقّ رسول الله واحتجّت قريش على سائر العرب بحقّ رسول الله ؟ فنحن أحقّ برسول الله من سائر قريش وغيرها .
فقال عمر : إليك عنّي يا ابن عباس ، فلما رآه عمر قائماً يريد أن يبرح خشي أن يكون قد أساء إليه فأسرع يقول متلطّفاً به : أيّها المنصرف ! إنّي على ما كان منك لراعٍ حَقَّكَ .
فالتفت ابن عباس إليه وهو يقول ولم يزايله جدّه : إنّ لي عليك يا أمير المؤمنين وعلى كلّ المسلمين حقّاً برسول الله ، فمن حفظه فحقّ نفسه حفظ ، ومن أضاعه فحقّ نفسه أضاع
.