لم تكن قريش لتنسى هزيمتها الساحقة في معركة بدر ومقتل صناديدها
ــــــــــــ
ورجالها وكثير من أبطالها فعزمت على الثأر من المسلمين ردّاً لاعتبارها الذي فقدته ، ولم يمضِ سوى عام حتى استكملت قريش عدّتها ، واجتمع إليها أحلافها من المشركين واليهود ، وانضمّ اليهم كلّ حاقد وناقم على الدين الإسلامي ، فاتّفقت كلمة الكفر ، واتّحدت قوى الباطل لمواجهة الحقّ ، وخرج جيش الكفر باتّجاه المدينة وقد تجاوز عدده ثلاثة آلاف ، وذلك في أوائل شوال من السنة الثالثة للهجرة ، وما أن وصل خبرهم إلى مسامع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
حتى جمع المسلمين واستشارهم في الموقف المناسب الذي يجب أن يتّخذوه ، تمّ خطب فيهم وحثّهم على القتال والصبر والثبات ، ووعدهم بالنصر والأجر ، وتجهّز للخروج بمن معه وكانوا ألفاً أو يزيدون ، ودفع لواءه لعليّ بن أبي طالب عليه السلام
ووزّع الرايات على وجوه المهاجرين والأنصار ، وأبى النفاق إلاّ أن يأخذ دوره في إضعاف المسلمين ، فرجع عبد الله ابن أبي بمن تبعه في منتصف الطريق ، وكان عددهم يناهز الثلاثمائة
.
واستمرّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
في مسيره قدماً حتى بلغ أُحداً ، فأعدّ أصحابه للقتال ووضع تخطيطاً سليماً محكماً للمعركة يضمن لهم النصر ، حيث أمر خمسين رجلاً من الرماة أن يكونوا من وراء المسلمين إلى جانب الجبل ، وأكّد عليهم بأن يلزموا أماكنهم ولا يتركوها حتى لو قُتل المسلمون جميعاً
.
ووصلت قريش إلى (أُحد) وأعدّوا أنفسهم للقتال ، فقسّموا الأدوار ووزّعوا المهام كما بدا لهم ، وأعطوا لواءهم لبني عبد الدار ، وأوّل من استلمه منهم طلحة بن أبي طلحة ، ولمّا علم النبيّ بذلك أخذ اللواء من عليّ عليه السلام
وسلّمه إلى مصعب بن عمير وكان من بني عبد الدار ، وبقي معه إلى أن قُتل ، وحينئذٍ ردّه
ــــــــــــ
النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
إلى عليّ عليه السلام
، وكانت معركة (أُحد) قد وقعت في شوال من العام الثالث من الهجرة .
وفي اللحظة التي كمل فيها التنظيم انطلقت شرارة المعركة عندما برز كبش الشرك وحامل رايتهم طلحة بن أبي طلحة الذي كان يُعدّ من شجعان قريش ، يتقدّم نحو المسلمين رافعاً صوته متحدّياً لهم مستخفّاً بجمعهم قائلاً : يا معشر أصحاب محمد ! إنّكم تزعمون أنّ الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنّة ؛ فهل أحد منكم يعجله سيفي إلى الجنّة أو يعجلني سيفه إلى النار ؟
فخرج إليه عليّ عليه السلام
وبرزا بين الصفّين ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
جالس في عريش أُعدّ له يشرف على المعركة ويراقب سيرها ، فضرب عليّ طلحة فقطع رجله وسقط على الأرض وسقطت الراية ، فذهب علي ليجهز عليه فكشف عورته وناشده الله والرحم ، فتركه عليّ عليه السلام
فكبّر رسول الله وكبّر معه المسلمون فرحاً بنتيجة هذه الجولة .
ثمّ تقدّم أخوه عثمان بن أبي طلحة فحمل الراية فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب فضربه فقتله ، فحمل اللواء من بعده أخوهما أبو سعيد ، فحمل عليه عليّ عليه السلام
فقتله ، ثمّ أخذ اللواء أرطاة بن شرحبيل فقتله عليّ ، وهكذا تعاقب على حمل اللواء تسعة من بني عبد الدار قُتلوا بأجمعهم بسيف عليّ
أو سيف حمزة ، وكان آخر من حمل اللواء هو غلام لبني عبد الدار يُدعى (صواب) فحمل عليه عليّ وقتله ، وسقط اللواء من بعده في ساحة المعركة ولم يجرؤ أحد أن يحمله ، فدبّ الرعب في قلوب المشركين ، وانهارت معنوياتهم ، وانكشف المشركون لا يلوون على شيء حتى أحاط المسلمون بنسائهم ، وبدت المعركة وكأنّها قد حُسمت لصالح المسلمين .
ــــــــــــ
وهنا عصفت النازلة العظمى بالمسلمين حيث ترك الرماة موقعهم فوق الجبل ، وانحدروا يشاركون إخوتهم غنائم المعركة ، ولم يثبت على الجبل إلاّ عشرة رماة .
فنظر خالد بن الوليد ـ وكان على خيل المشركين ـ خلوّ الجبل وقلّة الثابتين صاح بخيله ، وكرّ يحمل على الرماة وتبعه عكرمة فقتلوهم ، وهنا تغيّر ميزان القوة ورجحت كفّته لصالح المشركين ، فاستطاعوا أن ينفذوا ويشقّوا صفوف المسلمين
، وكانت المأساة التي لم يعرف المسلمون لها مثيلاً ، فارتبك المسلمون وضاع صوابهم ، فكانت هزيمة بعد نصر وانكساراً بعد انتصار ، وتفرّق الناس كلّهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وأسلموه إلى أعدائه بعد أن استشهد عمّه حمزة ومصعب بن عمير ، ولم يبق معه أحد إلاّ عليّ ونفر قليل من المهاجرين والأنصار .
في هذه اللحظات الحاسمة والحرجة سجّل التأريخ موقف الصمود والفداء الذي وقفه عليّ عليه السلام
من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
، وقف ليدافع عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
بكلّ قوة وبسالة وهمّه سلامة الرسول والرسالة ، إذ كان يحمل الراية بيد والسيف بالأخرى يصدّ الكتائب ويردّ الهجمات عن الرسول ، وكأنّه جيش بكامل عِدَّته وعُدَّته ، وكان الرسول كلّما رأى جماعة تهجم عليه قال لعليّ عليه السلام
:يا عليّ احمل عليهم
، فيحمل عليهم ويفرّقهم ، فلم يزل عليّ يقاتل حتى أثخنته جراحات عديدة في وجهه ورأسه وصدره وبطنه ويديه
.
فأتى جبرئيل عليه السلام
النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
فقال :إنّ هذه لهي المواساة
، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
:
ــــــــــــ
إنّه منّي وأنا منه
، فقال جبرئيل :وأنا منكما
، فسمعوا صوتاً في السماء ينادي :لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ عليّ
.
وهكذا استطاع أمير المؤمنين عليه السلام
أن يحافظ على حياة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم
، وأن يوصل نتيجة المعركة إلى حالة من التوازن دون أن يحرز أحد الطرفين نصراً حاسماً.