وصل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
إلى (قُبا) بسلام، واستقبلته جموع الأنصار، ومن هناك بعث بكتابه إلى عليّ عليه السلام
يأمره فيه بالمسير إليه والإسراع في اللحاق به، وكان قد أرسل إليه أبا واقد الليثي، وحين وصل إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
اشترى عليّ عليه السلام
الركائب وأعدّ العدّة للخروج، وأمر من بقي معه من ضعفاء المسلمين أن يتسلّلوا ويتخفّفوا
إذا ملأ الليل بطن كلّ واد إلى ذي طوى
، وبدأت المهمّة الشاقّة الثالثة أمام عليّ عليه السلام
وهي الرحيل برفقة النساء نحو يثرب، وخرج هو ومعه الفواطم: فاطمة بنت رسول الله، واُمّه فاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب، وفاطمة بنت حمزة، وتبعهم أيمن مولى
ــــــــــــ
رسول الله وأبو واقد الليثي
.
وتولّى أبو واقد الليثي سوق النياق، ولشدّة خشيته كان يحثّ الخطى سريعاً حتى لا يلحق بهم الأعداء.
وعزّ على عليّ عليه السلام
أن يرى نساء بني هاشم على تلك الحالة من الجهد والعناء من سرعة الحركة، فقال عليه السلام
:ارفق بالنسوة أبا واقد، إنّهن من الضعائف
.
وأخذ عليه السلام
بنفسه يسوق الرواحل سوقاً رقيقاً، وهو ينشد ليبعث الطمأنينة في نفوس من معه:
وليس إلاّ الله فارفع ظنَّكا
|
|
يكفيك ربّ الناس ما أهمّكا
|
واستمرّ عليّ عليه السلام
على هدوئه في قيادة الركب حتى شارف على قرية في الطريق تُسمى (ضجنان) وهناك أدركته القوّة التي أرسلتها قريش للقبض عليه ومن معه وإعادتهم إلى مكّة ، وكانوا سبعة فوارس من قريش ملثّمين معهم مولىً لحرب بن اُمية اسمه (جناح) ، فقال علي عليه السلام
لأيمن وأبي واقد :
أنيخا الإبل واعقلاها
، وتقدّم هو فأنزل النسوة ثمّ استقبل الفوارس بسيفه ، فقالوا له : أظننت يا غدّار أنّك ناجٍ بالنسوة ، إرجع لا أباً لك .
فقال عليه السلام
: فإنلم أفعل ؟
فازدادوا حنقاً وغيظاً منه ، فقالوا له : لترجعنّ راغماً أو لنرجعنّ بأكثرك شعراً وأهون بك من هالك .
ودنا بعضهم نحو النياق ليفزعوها حتى يُدخلوا الخوف والرعب إلى قلوب النسوة ، فحال عليّ عليه السلام
بينهم وبين ذلك ، فأسرع نحوه جناح وأراد ضربه بسيفه فراغ عنه عليّ عليه السلام
وسارعه بضربة على عاتقه فقسمه نصفين حتى وصل السيف إلى كتف فرس جناح
، ثمّ شدّ على بقية الفرسان وهو راجل، ففرّوا من بين يديه فزعين خائفين.
ــــــــــــ
وقالوا: احبس نفسك عنّا يا ابن أبي طالب، فقال لهم:فإنّي منطلق إلى أخي وابن عمّي رسول الله، فمن سرّه أن أفري لحمه وأُريق دمه فليدنُ منّي
، فهرب الفرسان على أدبارهم خائبين.
ثمّ أقبل عليه السلام
على أيمن وأبي واقد وقال لهما:أطلقا مطاياكما
، فواصل الركب المسير حتّى وصلوا (ضجنان) فلبث فيها يوماً وليلة حتى لحق به نفر من المستضعفين، وبات فيها ليلته تلك هو والفواطم يصلّون ويذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم حتى طلع الفجر، فصلّى بهم عليّ عليه السلام
صلاة الفجر، ثمّ سار لوجهه يجوب منزلاً بعد منزل لا يفتر عن ذكر الله حتى قدموا المدينة.
وقد نزل الوحي قبل قدومهم بما كان من شأنهم وما أعدّه الله لهم من الثواب والأجر العظيم بقوله تعالى:(
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
* * *
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ
...
وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ
)
.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
في (قباء) نازلاً على عمرو بن عوف، فأقام عندهم بضعة عشر يوماً يصلّي الخمس قصراً، يقولون له: أتقيم عندنا فنتّخذ لك منزلاً ومسجداً؟ فيقول صلى الله عليه وآله وسلم
:لا، إنّي أنتظر عليّ بن أبي طالب، وقد أمرته أن يلحقني، ولست مستوطناً منزلاً حتى يقدم عليٌّ، وما أسرعه إن شاء الله
!
وحين وصل عليّ عليه السلام
; كانت قدماه قد تفطّرتا من فرط المشي وشدّة الحرّ، وما أن رآه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
على تلك الحالة; حتى بكى عليه إشفاقاً له، ثمّ مسح
ــــــــــــ
يديه على قدميه فلم يشكهما بعد ذلك
.
ثمّ إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
لمّا قدم عليه عليّ عليه السلام
; تحوّل من قباء إلى بني سالم ابن عوف وعلي معه، فخطّ لهم مسجداً، ونصب قبلته، فصلّى بهم فيه ركعتين، وخطب خطبتين، ثمّ راح من يومه إلى المدينة على ناقته التي كان قدم عليها وعليّ لا يفارقه، يمشي بمشيه، وأخيراً نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
عند أبي أيوب الأنصاري وعليّ معه حتى بنى له مسجده وبنيت له مساكنه، ومنزل عليّ عليه السلام
فتحوَّلا إلى منازلهما
.