كان الانفتاح الرسالي العظيم الذي قام به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
إثر المعاهدة التي أبرمها مع الأوس والخزرج في بيعة العقبة الثانية
، والذي كان نقطة انطلاق الدعوة الإسلامية إلى العالم الأوسع، والخطوة الكبيرة لبناء المجتمع الرسالي
ــــــــــــ
المؤمن، بعد أن انتشر الإسلام في يثرب بجهود الصفوة من الدعاة المخلصين والمضحّين من أجل الله ونشر تعاليم الإسلام، وبذا أصبح للمسلمين بقعة آمنة تمثّل محطة مركزية ومهمة لبلورة العمل الثقافي والتربوي والدعوة الإلهية في مجتمع الجزيرة العربية.
وحين تمادى طغاة قريش في إيذاء المسلمين والضغط عليهم لإرغامهم على ترك الدين الإسلامي وفتّهم عن نصرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
وحين كثر عتوّهم واضطهادهم; أمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
أصحابه بالهجرة إلى يثرب، فقال صلى الله عليه وآله وسلم
:
(إنّ الله قد جعل لكم داراً تأمنون بها وإخواناً)
، فخرجوا على شكل مجاميع صغيرة وبدفعات متفرّقة خفيّة عن أنظار قريش
.
ومع كلّ المعاناة التي لاقاها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
من القريب والبعيد والضغوط والتكذيب والتهديد حتى قال صلى الله عليه وآله وسلم
:(ما أوذي أحد مثل ما أوذيت في الله)
فإنّ أمله بالنصر على الأعداء والنجاح من تبليغ الدعوة الإسلامية لم يضعف، وثقته المطلقة بالله كانت أقوى من قريش ومؤامراتها، وقد عرفت قريش فيه صلى الله عليه وآله وسلم
ذلك وتجسّدت لديها الأخطار التي ستكشف عنها السنون المقبلة إذا تسنّى لمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم
أن يلتحق بأصحابه ويتّخذ من يثرب مستقراً ومنطلقاً لنشر دعوته، فأخذوا يعدّون العدّة ويخطّطون للقضاء عليه قبل فوات الأوان على شرط أن لا يتحمّل مسؤولية قتله شخص معيّن أو قبيلة لوحدها، فلا تستطيع بنو هاشم وبنو المطلب مناهضة القبائل جميعاً في دم صاحبهم فيرضون حينئذ بالعَقل منهم.
ــــــــــــ
فكان القرار بعد أن اجتمعوا في دار الندوة وقد كثرت الآراء بينهم أن يندبوا من كلّ قبيلة فتىً شابّاً جلداً معروفاً في قبيلته، ويعطى كلّ منهم سيفاً صارماً ثم يجمعون على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
في داره، ويضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه، واتّفقوا على ليلة تنفيذ الخطة، فأتى جبرئيل إلى النبيّ وأخبره بذلك، وأمره أن لا يبيت في فراشه، وأذن له بالهجرة، فعند ذلك أخبر عليّاً بأمورهم وأمره أن ينام في مضجعه على فراشه الذي كان ينام فيه، ووصاه بحفظ ذمّته وأداء أمانته، وقال له أيضاً:(إذا أبرمت ما أمرتك به; فكن على أُهبة الهجرة إلى الله ورسوله، وسر لقدوم كتابي عليك)
، وهنا تتجلى صفحة من صفحات عظمة علي عليه السلام
، إذ استقبل أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
بنفس مؤمنة صابرة مطمئنّة، فرسم لنا أكمل صورة للطاعة المطلقة في أداء المهمّات استسلاماً واعياً للقائد وتضحية عظيمة من أجل العقيدة والمبدأ، فما كان جوابه عليه السلام
إلاّ أن قال للرسول صلى الله عليه وآله وسلم
:(أوتسلم يا رسول الله إن فديتك نفسي؟)
.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم
:
(نعم، بذلك وعدني ربّي)
; فتبسّم علي عليه السلام
ضاحكاً، وأهوى إلى الأرض ساجداً ، شكراً لما أنبأه به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
من سلامته
.
ثمّ ضمّه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
إلى صدره وبكى وَجْداً به، فبكى عليّ عليه السلام
لفراق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
.
وعندما جاء الليل; اتّشح عليّ عليه السلام
ببرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
الذي اعتاد أن يتّشح به، واضطجع في فراش النبيّ مطمئن النفس رابط الجأش ثابت الجنان مبتهجاً بما أوكل إليه فرحاً بنجاة النبيّ، وجاء فتيان قريش والشرّ يملأ نفوسهم
ــــــــــــ
ويعلو سيوفهم، وأحاطوا بالبيت وجعلوا ينظرون من فرجة الباب إلى حيث اعتاد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
أن ينام فيه فرأوا رجلاً ينام على فراشه، فأيقنوا بوجود النبيّ، واطمأنت قلوبهم على سلامة خطّتهم، فلمّا كان الثلث الأخير من الليل خرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
من الدار وقد كان مختبئاً في مكان منها، وانطلق إلى غار (ثور) وكَمَنَ فيه ليواصل بعد ذلك هجرته المباركة.
ولمّا حانت ساعة تنفيذ خطّتهم; هجموا على الدار، وكان في مقدّمتهم خالد ابن الوليد، فوثب عليّ عليه السلام
من فراشه فأخذ منه السيف وشدّ عليهم فأجفلوا أمامه وفرّوا إلى الخارج، وسألوه عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
: فقال: لا أدري إلى أين ذهب.
وبذلك كتب الله السلامة لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم
والانتشار لدعوته.
بهذا الموقف الرائع والإقدام الشجاع والمنهج الفريد سنّ عليّ عليه السلام
سنّة التضحية والفداء لكلّ الثائرين من أجل التغيير والإصلاح والسائرين في دروب العقيدة والجهاد. لم يكن همّ عليّ عليه السلام
إلاّ رضا الله وسلامة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم
وانتشار دعوته المباركة، فنزلت في حقّه الآية المباركة:
(
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ
)
.