وحين أسرع الإسلام ينتشر في مكّة وأصبح كياناً يقضّ مضاجع المشركين وخطراً كبيراً يهدّد مصالحهم; عمد المشركون إلى اُسلوب الغدر والقهر لإسكات صوت الرسالة الإسلاميّة، فشهروا سيوف البغي ولم يتوانَ أبو طالب في إحكام الغطاء الأمين للرسول صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم ، لما له من هيبة ومكانة شريفة في نفوس زعماء قريش الذين لم يجرؤا على النَيْلِ من النبيّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم لأنّ ذلك يعني مواجهة علنية مع أبي طالب وبني هاشم جميعاً، وقريش في غنىً عن هذه الخطوة الباهضة التكاليف.

فاتّجهوا نحو المستضعفين المسلمين من العبيد والفقراء فأذاقوهم ألوان التعذيب والقهر والمعاناة ليردّوهم عن دينهم وتمسّكهم بالنبيّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم . ولم تلق قريش غير الصمود والإصرار على الإسلام والالتزام بنهج الرسالة الإسلامية، فوجد رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم أفضل حلّ لتخليص المستضعفين من المسلمين هو الخروج من مكّة إلى الحبشة(٢) .

ولمّا لم يبقَ في مكّة من المسلمين إلاّ الوجهاء والشخصيات فقد كانت

ــــــــــــ

(١) الاختصاص للمفيد : ١٤٦.

(٢) سيرة ابن هشام: ١ / ٣٢١.


المواجهة الدموية هي أبعد ما يكون، وعندها سقطت كلّ الخيارات، ولم يبق أمام قريش إلاّ أن تلجأ إلى عمل يضعف الرسول صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم ويجنّبها القتال، فكان قرارهم حصار بني هاشم ومن معهم إجتماعياً واقتصادياً باعتبارهم الحماية التي تقي الرسول من بطش قريش، فبدأت معركتها السلبية مع بني هاشم.

وتجمّع المسلمون وبنو هاشم في شِعب أبي طالب لتوفير سبل الحماية بصورة أفضل، حيث يمكن إيجاد خطوط دفاعية لمواجهة أيِّ محاولة هجومية قد تقوم بها قريش(١) .

وللمزيد من الاحتياط والحرص على سلامة حياة الرسول صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم كان أبو طالب يطلب من ولده عليّ أن يبيت في مكان الرسول ليلاً حرصاً على سلامته من الاغتيال والمباغتة من قبل الأعداء من خارج الشِعب(٢) ، وكان عليّ عليه السلام يُسارع إلى الامتثال لأوامر والده ويضطجع في فراش النبيّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم فادياً نفسه من أجل الرسالة وحاملها.

ولم يكتف عليّ عليه السلام بهذا القدر من المخاطرة بنفسه، بل كان يخرج من الشِعب إلى مكّة سرّاً ليأتي بالطعام إلى المحاصرين(٣) ، إذ اضطرّوا في بعض الأيام أن يقتاتوا على حشائش الأرض.

لم يكن لأحد أن يقوم بمثل هذه الأعمال في تلك الفترة العصيبة إلاّ من ملك جناناً ثابتاً وقلباً شجاعاً ووعياً رسالياً وحبّاً متفانياً للرسول صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم ، ذلك هو عليّ ابن أبي طالب عليه السلام الذي قضى في الشِعب جزءً من زهرة شبابه حيث دخله وعمره سبعة عشر عاماً وخرج منه وعمره عشرون عاماً

ــــــــــــ

(١) سيرة ابن هشام: ١ / ٣٥٠، وإعلام الورى: ١ / ١٢٥.

(٢) البداية والنهاية لابن كثير: ٣ / ٨٤ .

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١٣ / ٢٥٦.