لقد تعرّض الواقع الإيماني والروحي في زمن الإمام الصادق عليه السلام
إلى الخواء والذبول وبروز الأنانية وفصل الإيمان عن الأنشطة الحياتية الأخرى وإعطائه صورة مشوّهة ، وقد جاء ذلك بسبب عبث التيارات الفكرية التي استندت إلى دعم السلاطين والتي كانت تؤمن هي الأخرى أيضاً بلزوم طاعة الحاكم الأموي والعباسي ; تبريراً لدعمها للخط الحاكم .
من هنا بذل الإمام نشاطاً واسعاً لاستعادة الإيمان وبناء الذات وسموّها وفق الخط القرآني وترشيح قواعد إيمانية رصينة ، والانطلاق بالإيمان إلى آفاق أرحب وأوسع بدل التقوقع والنظرة الأحادية المجزّئة للدّين ; لأنّ الإيمان بهذا المعنى يمنح المؤمن القوّة في اقتحام الميادين الصعبة وتحمّل المسؤوليات ويمدّه بالنشاط والحيوية في مواصلة العمل والجهاد .
ونقتصر فيما يلي على بعض الأنشطة التي رسّخ الإمام عن طريقها الإيمان في نفوس أصحابه وخاصّته .
ـــــــــــــــــ
١ـ حذّر الإمام من تكوين علاقات إيمانية مع مَن كانوا يسمّون بالعلماء ـ الذين انتشروا في زمانه ـ ومنع من الاقتداء بهم ؛ لأنّ ما يتحقق من خلال التعاطف معهم والمحبة لهم من دون معرفة لواقعهم النفسي والأخلاقي يكفي لبناء صرح إيماني خاطئ ومنحرف ; فإنّ العلم الذي يتمتّع به هؤلاء إنّما يكون كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءاً .
والإمام عليه السلام
يشير إلى أنّ هذا النوع من العلاقة ينتهي إلى فساد العلاقة مع الله والابتعاد عنه سبحانه ، قال عليه السلام
:( أوحى الله إلى داود
عليه السلام
: لا تجعل بيني وبينك عالماً مفتوناً بالدنيا فيصدّك عن طريق محبّتي ; فإنّ أولئك قطّاع طريق عبادي المريدين ، إنّ أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي من قلوبهم )
.
٢ ـ ومن الأمور التي صحّحها الإمام عليه السلام
ونبّه عليها أصحابه هو مفهوم الإيمان ومعناه ، فحاول أن يبلور صورته الصحيحة ويكشف عنه الإبهام في نفوس أصحابه ؛ وذلك عن طريق تشخيص صفات المؤمن فإنّ المؤمن هو ذلك الإنسان الذي يعكس المفهوم الإلهي بصورته الشاملة للحياة ، وليس هو ذلك النموذج المستسلم في حياته الفاقد لإرادته والذي يطمع فيه أهل السياسة لاستثمار طاقاته باتّجاه مصالحهم .
ولهذا نرى الإمام عليه السلام
يشير إلى مسألة مهمّة تستبطن بعداً اجتماعياً وسياسيّاً ينبغي للمؤمن أن يعيها ويتحرّك بموجبها ، حين قال عليه السلام
:( إنّ الله فوّض إلى المؤمن أمره كلّه ، ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً ، أما تسمع الله تعالى يقول :
(
ولله العِزّة ولرسوله وللمؤمنين
)
فالمؤمن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً )
.
ـــــــــــــــــ
ثم قال عليه السلام
:( المؤمن أعز من الجبل ، والجبل يستقل منه بالمعاول ، والمؤمن لا يستقلّ من دينه بشيء )
.
٣ ـ كما بيّن الإمام عليه السلام
أنّ القلب الخالي من مخافة الله ـ التي هي معيار الكمال والقوّة لقلب المؤمن ـ ليس بشيء ، فالقلب المملوء خوفاً من الله الكبير المتعال تتصاغر عنده سائر القوى مثل قوّة السلطان وقوّة المال وكل قوّة بشرية ، والقلب الذي لا يستشعر الرقابة الإلهية ويتغافل عن هيمنتها يكون ضعيفاً وساقطاً مهما بدا قوياً وعظيماً إنّ هذا النمط من العلاقة السلبية مع الله يؤدّي إلى اهتزاز الذات وقلقها وهزيمتها أمام التحدّيات الصادرة من تلك القوى المخلوقة الضعيفة أمام قدرة الله وعظمته وجبروته .
عن الهيثم بن واقد قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام
يقول :( مَن خاف الله أخاف الله منه كل شيء ومَن لم يخف الله أخافه الله من كلّ شيء )
.
٤ ـ ومن جملة تنبيهاته للشيعة أنّه قد حذّر من الثرثرة في الكلام وأمرهم بضبط اللسان وأشار إلى خطورة الكلام وما يترتّب عليه من آثار سيئة وآثام تضرّ بالإيمان كما حذّر أيضاً من الاستجابة لهوى النفس قائلاً :( إن كان الشؤم في شيء فهو في اللسان ، فاخزنوا ألسنتكم كما تخزنون أموالكم ، واحذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم فليس أقتل للرجال من اتّباع الهوى وحصائد ألسنتهم )
.
٥ ـ كما لفت الإمام أنظار شيعته إلى أن لا يتجاهل أحدهم الإشاعات التي يطلقها الخصوم ضد أصحابه فقد تكون مصيبة وصحيحة ، ولتكن مدعاة
ـــــــــــــــــ
لمراجعة النفس قال عليه السلام
:( مَن لم يبال ما قال وما قيل فيه فهو شرك الشيطان ، ومَن لم يبال أن يراه الناس مسيئاً فهو شرك الشيطان )
.