لقد مارس الإمام الهادي عليه السلام
وظيفته بصفته الإمام والقائد لمواليه والراعي لمصالحهم بالرغم من الظروف الصعبة التي كانت تمرّ بالإمام عليه السلام
وبشيعته من تتبّع السلطة لهم ومطاردتهم ، وفرض الإقامة الجبرية على الإمام بعد إشخاصه من المدينة إلى سامراء ليكون قريباً من السلطان وتحت رقابته ، وتتجلّى لنا مواقف الإمام عليه السلام
في هذا الاتجاه في المحافظة التامّة على شيعته ورعاية مصالحهم الخاصّة والعامّة وقضاء حوائجهم وتحذيرهم ممّا تحوكه السلطة ضدّهم ، وما يجب أن يتخذوه من حيطة وكتمان لنشاطهم واتصالاتهم حتى لا يقعوا في حبائل السلطة الغاشمة التي كانت تتربّص بهم وبالإمام عليه السلام
الدوائر .
إنّ وصايا الإمام عليه السلام
لأتباعه تظهر مدى اهتمامه بما يجري في الساحة أوّلاً ، ومدى قربه من الأحداث العامة والخاصة ثانياً وكانت أوامره تصل الجماعة الصالحة بشكل دقيق وسريع ، بل قد تكون سابقة للأحداث في بعض الأحيان ؛ لتتمكّن تلك الجماعة من تجاوز ما يحاك ضدّها كما أنّ إجراءات الإمام وأساليبه كانت مظهراً لعمل حركي وتنظيمي وعلى درجة عالية من الدقّة والتخطيط ، وهذا ما تكشفه لنا خطابات الإمام
عليه السلام
إلى شيعته والتي كانت تحمل بين طيّاتها أدوات ووسائل مختلفة ومتعدّدة لمواجهة الظروف التي تحيط بها وإليك بعض أساليبه ووسائله وتعليماته الخاصّة بهذا الصدد :
أ ـ الحذر من تدوين الأُمور
كان الإمام عليه السلام
يحذّر أصحابه من تدوين وكتابة بعض الأمور ، وخصوصاً ما كان يتعلّق بعلاقات ووضع الجماعة الصالحة ومواقفها ، فعن داود الصرمي قال : أمرني سيدي بحوائج كثيرة فقال عليه السلام
لي :قل كيف تقول ؟
فلم أحفظ مثل ما قال لي ، فمدّ الدواة وكتب :( بسم الله الرحمن الرحيم اذكره إن شاء الله والأمر بيد الله )
، فتبسّمت ، فقال عليه السلام
:ما لك ؟
قلت : خير ، فقال :اخبرني ؟
قلت جُعلت فداك ذكرت
حديثاً حدثني به رجل من أصحابنا عن جدّك الرضا عليه السلام
إذا أمر بحاجة كتب بسم الله الرحمن الرحيم ، اذكر إن شاء الله فتبسّمت ، فقال عليه السلام
لي :يا داود ولو قلت : إنّ تارك التقيّة كتارك الصلاة لكنت صادقاً
.
فالإمام عليه السلام
هنا يربط الكتمان والحذر بمفهوم إسلامي وهو ( التقيّة ) والتي وردت بها أحاديث وآيات كريمة كقوله تعالى :(
إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً
)
وكذا قوله تعالى :(
إلاّ مَن أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان
)
، وهي الآية التي نزلت في قضيّة عمار بن ياسررضياللهعنه
حيث عذّبه المشركون في مكة لكي ينال من الرسول ويتركوه ، ثم جاء إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
فقال له :إن عادوا فعد
فلم تكن أوامر الإمام عليه السلام
بهذا الصدد فقط خشية من انكشافها ، بل إنّه طرحها تأكيداً لهذا المفهوم الذي عُرفت به الشيعة منذ نشوئها امتثالاً لوصايا الأئمة عليهم السلام
والقرآن الكريم .
ــــــــــــــ
ب ـ تغيير الأسماء
ج ـ التحذير من الحديث في الأماكن العامّة
كان الإمام عليه السلام
يمنع بعض أصحابه من الحديث والمساءلة في الطريق وغيره من الأماكن التي يكون فيها عيون للسلطان .
فعن محمد بن شرف قال : كنت مع أبي الحسن عليه السلام
أمشي في المدينة فقال لي :
ألست ابن شرف ؟
قلت بلى ، فأردت أن أسأله عن مسألة فابتدأني من غير أن أسأله فقال :
( نحن على قارعة الطريق وليس هذا موضع مسألة )
.
د ـ النفوذ في جهاز السلطة
لقد استولى بنو العباس على السلطة وتولّوا أمر الأمة بالقهر والغلبة بعد سقوط الدولة الأموية سنة (١٣٢ هـ) ، وعاثوا في الأرض الفساد حيث استشرى أمرهم فكان القتل والتشريد وابتزاز الأموال على قدمٍ وساق ، ولم تكن حكومتهم ذات شرعية إسلامية ، ومن هنا كان العمل معهم غير مشروع ، وقد كتب محمد بن علي بن عيسى ـ أحد أصحاب الإمام عليه السلام
ـ إلى الإمام الهادي عليه السلام
يسأله عن العمل لبني العباس وأخذ ما يتمكّن من أموالهم ، هل فيه رخصة ؟ فقال عليه السلام
:( ما كان المدخل فيه بالجبر والقهر فالله قابل به العذر ، وما خلا ذلك فمكروه ، ولا محالة قليله خير من كثيره ، وما يكفر به ما يلزمه فيه من يرزقه ويسبّب على يديه ما يسرك فينا وفي موالينا )
.
ــــــــــــــ
ولمّا وافى كتاب الإمام عليه السلام
إلى محمد بن علي بن عيسى بادر فكتب للإمام عليه السلام
: ( إنّ مذهبي في الدخول في أمرهم وجود السبيل إلى إدخال المكروه على عدوّه وانبساط اليد في التشفّي منهم بشيء أتقرّب به إليهم ، فأجاب الإمام عليه السلام
مَن فعل ذلك فليس مدخله في العمل حراماً بل أجراً وثواباً
)
.
لقد وضع الإمام عليه السلام
في النصّين أعلاه ضوابط العمل مع السلطان الجائر التي تتلخّص في توفير وسيلة لإضعاف الظالمين ، أو تحقيق خدمة لمواليه المظلومين .