سعى المعتمد جاهداً في التخلص من الإمام العسكري عليه السلام أي انّه سارَ على ذات المنهج الذي اتّبعه أسلافه من الخلفاء الأمويين والعباسيين مع الأئمة المعصومين عليهم السلام غير أنّ موقفه هذا سرعان ما تغيّر ظاهراً، وقدّم الاعتذار

ــــــــــــ

(١) الكامل في التأريخ: ٤ / ٤٤٧.

(٢) الكامل في التأريخ: ٤ / ٤٣٩.


للإمام عليه السلام بعد محاولة لتصفيته برميه مع السباع كما عمل مثل ذلك المتوكّل مع أبيه علي الهادي عليه السلام وذلك حين سلّم الإمام العسكري عليه السلام إلى يحيى بن قتيبة الذي كان يضيّق على الإمام عليه السلام حيث رمى به إلى مجموعة من السباع ظنّاً منه أنها سوف تقتل الإمام عليه السلام ، مع العلم بأن امرأة يحيى كانت قد حذّرته من أن يمس الإمام بسوء بقولها له:«اتقِّ الله فإني أخاف عليك منه» .

وروي أن يحيى بن قتيبة قد أتاه بعد ثلاث مع الأسود فوجده يصلّي، والأسود حوله، فدخل الأسود الغيل ـ أي موضع الأسد ـ فمزّقته الأُسود وأكلته وانصرف يحيى إلى المعتمد وأخبره بذلك، فدخل المعتمد على العسكري عليه السلام وتضرّع إليه...(١)

واستمر المعتمد في التضييق على الإمام الحسن العسكري عليه السلام فيما بعد حتى ألقى به في سجن علي بن جرين وكان يسأله عن أخباره فيجيبه: إنّه يصوم النهار ويقوم الليل.(٢)

وقال ابن الصباغ المالكي: حدث أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري قال: كنت في الحبس الذي بالجوشق أنا والحسن بن محمد العتيقي ومحمد بن إبراهيم العمري وفلان وفلان خمسة ستة من الشيعة، إذ دخل علينا أبو محمد الحسن بن علي العسكري عليهما‌ السلام وأخوه جعفر فخففنا بأبي محمد، وكان المتولي لحبسه صالح بن الوصيف الحاجب، وكان معنا في الحبس رجل جمحي.

فالتفت إلينا أبو محمد وقال لنا سرّاً:لولا أن هذا الرجل فيكم لأخبرتكم متى

ــــــــــــ

(١) مناقب آل أبي طالب: ٤/٤٣٠.

(٢) مهج الدعوات: ٢٧٥.


يفرج عنكم وترى هذا الرجل فيكم قد كتب فيكم قصته إلى الخليفة يخبره فيها بما تقولون فيه وهي مدسوسة معه في ثيابه يريد أن يوسع الحيلة في إيصالها إلى الخليفة من حيث لا تعلمون، فاحذروا شرّه .

قال أبو هاشم: فما تمالكنا أن تحاملنا جميعاً على الرجل، ففتشناه فوجدنا القصة مدسوسة معه بين ثيابه وهو يذكرنا فيها بكل سوء فأخذناها منه وحذرناه، وكان الحسن يصوم في السجن، فإذا أفطر أكلنا معه ومن طعامه وكان يحمله إليه غلامه في جونة مختومة.

قال أبو هاشم: فكنت أصوم معه فلمّا كان ذات يوم ضعفت من الصوم، فأمرت غلامي فجاءني بكعك فذهبت إلى مكان خال في الحبس، فأكلت وشربت، ثم عدت إلى مجلسي مع الجماعة ولم يشعر بي أحد، فلمّا رآني تبسّم وقال: أفطرت، فخجلت، فقال: لا عليك يا أبا هاشم، إذا رأيت أنّك قد ضعفت وأردت القوّة فكل اللحم، فإنّ الكعك لا قوّة فيه، وقال: عزمت عليك أن تفطر ثلاثاً فإنّ البنية إذا أنهكها الصوم لا تقوى إلاّ بعد ثلاث.

قال أبو هاشم: ثم لم تطل مدّة أبي محمد الحسن في الحبس إلاّ أن قحط الناس بسرّ من رأى قحطاً شديداً، فأمر الخليفة المعتمد على الله ابن المتوكّل بخروج الناس إلى الاستسقاء فخرجوا ثلاثة أيام يستسقون ويدعون فلم يسقوا، فخرج الجاثليق في اليوم الرابع إلى الصحراء وخرج معه النصارى والرهبان وكان فيهم راهب كلّما مدّ يده إلى السماء ورفعها هطلت بالمطر.

ثم خرجوا في اليوم الثاني وفعلوا كفعلهم أول يوم فهطلت السماء بالمطر وسقوا سقياً شديداً، حتى استعفوا، فعجب الناس من ذلك وداخلهم الشك وصفا بعضهم إلى دين النصرانية فشقّ ذلك على الخليفة، فأنفذ إلى صالح بن وصيف أن اخرج أبا محمد الحسن بن علي من السجن وائتني به.


فلمّا حضر أبو محمد الحسن عند الخليفة قال له: أدرك أُمة محمد فيما لحق في هذه النازلة، فقال أبو محمد: دعهم يخرجون غداً اليوم الثالث، قال: قد استعفى الناس من المطر واستكفوا فما فايدة خروجهم؟ قال: لأزيل الشك عن الناس وما وقعوا فيه من هذه الورطة التي أفسدوا فيها عقولاً ضعيفة.

فأمر الخليفة الجاثليق والرهبان أن يخرجوا أيضاً في اليوم الثالث على جاري عادتهم وأن يخرجوا الناس، فخرج النصارى وخرج لهم أبو محمد الحسن ومعه خلق كثير، فوقف النصارى على جاري عادتهم يستسقون إلاّ ذلك الراهب مدّ يديه رافعاً لهما إلى السماء، ورفعت النصارى والرهبان أيديهم على جاري عادتهم، فغيمت السماء في الوقت ونزل المطر.

فأمر أبو محمد الحسن القبض على يد الراهب وأخذ ما فيها، فإذا بين أصابعها عظم آدمي، فأخذه أبو محمد الحسن ولفه في خرقة وقال:استسقِ فانكشف السحاب وانقشع الغيم وطلعت الشمس فعجب الناس من ذلك، وقال الخليفة: ما هذا يا أبا محمد؟! فقال:عظم نبي من أنبياء الله عَزَّ وجَلَّ ظفر به هؤلاء من بعض فنون الأنبياء وما كشف نبي عن عظم تحت السماء إلاّ هطلت بالمطر ، واستحسنوا ذلك فامتحنوه فوجدوه كما قال.

فرجع أبو محمد الحسن إلى داره بسرّ من رأى وقد أزال عن الناس هذه الشبهة وقد سرّ الخليفة والمسلمون ذلك وكلّم أبو محمد الحسن الخليفة في إخراج أصحابه الذين كانوا معه في السجن، فأخرجهم وأطلقهم له