إنّ التمهيد الذي قام به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
ـ تبعاً للقرآن الكريم ـ بالنسبة لقضية المصلح الإسلامي العالمي والتصريح بأنّه سيولد من أبناء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
من فاطمة وعلي عليهما السلام
وأنّه التاسع من أبناء الحسين الشهيد ، كان ضرورة إسلامية تفرضها العقيدة ؛ لأنّها نقطة إشعاع ومركز الأمل الكبير للمسلمين في أحلك الظروف الظالمة التي سيمرّون بها ، وقد أيّدت الظروف التي حلّت بالمسلمين بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم
هذه الأخبار السابقة لأوانها .
إنّ هذا التمهيد النبوي الواسع قد بلغت نصوصه ـ لدى الفريقين ـ ما يزيد على الـ (٥٠٠) نص حول حتميّة ظهور المهدي عليه السلام
وولادته وغيبته وظهوره وعلائم ظهوره وعدله وحكمه الإسلامي النموذجي .
وقد سار على درب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
الأئمة من أهل البيت عليهم السلام
خلال قرنين ـ وعملوا على تأكيد هذا الأصل وتأييده وإقراره في النفوس وجعله معلماً من معالم عقيدة المسلمين فضلاً عن الموالين لأهل البيت عليهم السلام
وأتباعهم وقد زرع هذا المبدأ ألغاماً تهدّد الظالمين بالخطر وتنذرهم بالفناء والقضاء عليهم وعلى خطّهم المنحرف ، فهو مصدر إشعاع لعامّة المسلمين كما أنّه مصدر رعب للظالمين المتحكّمين في رقاب المسلمين .
ولو لم يصدر من أهل البيت عليهم السلام
إلاّ التأكيد على هذا المبدأ فقط ـ وإن لم يمارسوا أي نشاط سياسي ملحوظ ـ لكان هذا كافياً في نظر الحكّام للقضاء عليهم مادام هذا المبدأ يقضّ مضاجعهم .
ولكنّ اضطرارهم لمراعاة الرأي العام الإسلامي حال بينهم وبين ما يشتهونه ويخطّطون ضد أهل البيت عليهم السلام
فكانت إرادة الله تفوق إرادتهم غير أنّهم لم يتركوا التخطيط للقضاء على أهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
.
فعن الحسين أشاعوا أنّه قد خرج على دين جدّه وهو الذي كان يطلب الإصلاح في أُمّة جده .
والإمام الكاظم عليه السلام
ـ ومَن سبقه ـ قد اتّهم بأنّه يُجبى له الخراج وهو يخطّط للثورة على السلطان .
والإمام الرضا والجواد عليهما السلام
قد قُضي عليهما بشكل ماكر وخبيث بالرغم من علم المأمون بأنّه المتهم في اغتيال الرضا عليه السلام
، والمعتصم قد وظّف ابنة المأمون لارتكاب جريمة الاغتيال .
إذن كان التمهيد النبوي لقضية الإمام المهدي الإسلامية يشكّل نقطة أساسية ومَعْلَماً لا يمكن تجاوزه ؛ حرصاً على مستقبل الأمة الإسلامية التي قدّر لها أن تكون أُمّة شاهدة وأُمّة وسطاً يفيء إليها الغالي ويرجع إليها التالي حتى ترفرف راية ( لا إله إلاّ الله محمد رسول الله ) على ربوع الأرض ويظهر دينه الحق على الدين كلّه ولو كره الكافرون .
وقد ضحّى أهل البيت عليهم السلام
لهذا المبدأ القرآني الذي بيّنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
واعتمده أهل البيت عليهم السلام
كخط عام وعملوا على تثبيته في نفوس المسلمين .
ويشهد لذلك ما ألّفه العلماء من كتب الملاحم التي اهتمّت بقضية الإمام المهدي عليه السلام
في القرنين الأوّل والثاني الهجريين بشكل ملفت للنظر .
فالإمام المهدي عليه السلام
قبل ولادته بأكثر من قرنين كان قد تلألأ اسمه وتناقلت الرواة أهدافه وخصائصه ونسبه وكل ما يمتّ إلى ثورته الإسلامية بصلة .
واستمرّ التبليغ لذلك طوال قرنين ونصف قرن من الزمن والمسلمون يسمعون كل ذلك ويتناقلون نصوصه جيلاً بعد جيل بل يعكفون على ضبطه والتأليف المستقلّ بشأنه .
والمتيقّن أنّ عصر الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام
ومَن تلاهما من الأئمة عليهم السلام
قد حفل بهذا التأكيد ؛ فقد أُحصيت نصوص الإمام الصادق عليه السلام
بشأن المهدي فناهزت الـ (٣٠٠) نصّاً واستمرّ التأكيد على ذلك خلال العقود التي تلته .
فما هي إفرازات هذا الواقع الذي ذكرناه من الناحيتين السياسية والاجتماعية ؟ وما هي النتائج المتوقّعة لمثل هذه القضية التي لابد من إقرارها في نفوس المسلمين ؟ وهنا نصّ جدير بالدراسة والتأمّل قد وصلنا من الإمام الحسن العسكري عليه السلام
في هذا الشأن بالخصوص وفيه تأييده لهذه الحقيقة الكبرى .
( قال أبو محمد بن شاذان ـ عليه الرحمة ـ حدّثنا أبو عبد الله بن الحسين ابن سعد الكاتبرضياللهعنه
قال أبو محمد عليه السلام
:
قد وضع بنو أُمية وبنو العباس سيوفهم علينا لعلّتين : إحداهما : أنّهم كانوا يعلمون
( أنّ )
ليس لهم في الخلافة حق فيخافون من ادّعائنا إيّاها وتستقرّ في مركزها .
وثانيهما : أنّهم قد وقفوا من الأخبار المتواترة على أنّ زوال ملك الجبابرة الظلمة على يد القائم منّا ، وكانوا لا يشكّون أنّهم من الجبابرة والظلمة ، فسعوا في قتل أهل بيت سول الله
صلى الله عليه وآله وسلم
وإبادة نسله طمعاً منهم في الوصول إلى منع تولّد القائم
عليه السلام
أو قتله ، فأبى الله أن يكشف أمره لواحد منهم إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره المشركون )
.
ومن هنا نفهم السرّ في تسرّع الحكّام للقضاء على الثلث الأخير من أئمة أهل البيت الاثني عشر عليهم السلام
.
كما نفهم السرّ في تشديد الرقابة على تصرّفاتهم حتى قاموا بزرع العيون في داخل بيوتهم واستعانوا بشكل مكثّف بالعنصر النسوي لتحقيق هذه المراقبة الدقيقة والشاملة .
كما أنّنا يمكن أن نكتشف السرّ في أنّ الأئمة بعد الإمام الصادق عليه السلام
لماذا لم يولدوا من نساء هاشميات يُشار إليهنّ بالبنان ؟ بل وُلدوا من إماء طاهرات عفيفات مصطفاة ، فلم يكن هناك زواج رسمي وعلني وعليه فلا يكون الإمام المولود ملفتاً للنظر سوى للخواص والمعتمدين من أصحاب أهل البيت عليهم السلام
.
ــــــــــــــ
وحين كان يقوم الإمام السابق بالتمهيد لإمامته وطرح اسمه على الساحة بالتدريج ، حينئذٍ كان ينتبه الحكام لذلك وربّما كانت تفوت عليهم الفرص لاغتياله والقضاء عليه .
ولهذا حين كان يشار إليه بالبنان وتتوجّه إليه القلوب والنفوس كانت الدوائر الحاقدة تبدأ بالكيد له باستمرار .
قال أيوب بن نوح ، قلت للرضا عليه السلام
: نرجو أن تكون صاحب هذا الأمر ، وإن يردّه الله إليك من غير سيف فقد بُويع لك وضُربت الدراهم باسمك ، فقال :ما منّا أحد اختلفت إليه الكتب وسئل عن المسائل وأشارت إليه الأصابع وحملت إليه الأموال إلاّ اعتلّ ومات على فراشه حتى يبعث الله عزّ وجل لهذا الأمر رجلاً خفيّ المولد والمنشأ حتى خفي في نفسه
.
فالإمام الكاظم والإمام الرضا عليه السلام
قد استشهدا وهما في الخامسة والخمسين من عمرهما بينما الإمام الجواد عليه السلام
قد استشهد وهو في الخامسة والعشرين من عمره من دون أن يكون كل واحد منهم قد أُصيب بمرض يوجب موته ، بل كانوا أصحّاء بحيث كانت صحّتهم وسلامتهم الجسمية مثاراً لاتّهام الحكّام الحاقدين عليهم .
إذن فالإمام الجواد عليه السلام
بإمامته المبكّرة التي أصبحت حدثاً فريداً تتناقله الألسن ، سواء بين الأحبّة أو الأعداء ، قد ضرب الرقم القياسي في القيادة الربّانية وذكّر الأمة بما كانت قد سمعته من إخبار القرآن الكريم بأنّ الله قد آتى كلاًّ من يحيى وعيسى الكتاب والحكم والنبوّة في مرحلة الصبا بل لمست ذلك بكل وجودها وهي ترى طفلاً لا يتجاوز العقد الواحد وإذا به يهيمن على عقول وقلوب الملايين .
ــــــــــــــ
وفي هذا نوع إعداد لإمامة من يليه من الأئمة عليهم السلام
الذين يتولّون الإمامة وهم في مرحلة الصبا خلافاً لما اعتاده الناس في الحياة .
وقد كانت إمامة ابنه الهادي عليه السلام
ثاني مصداق لهذا الحدث الفريد الذي سوف لا يكون في تلك الغرابة ، بل سوف يعطي للخط الرسالي لأهل البيت عليهم السلام
زخماً جديداً وفاعلية كبيرة ؛ إذ يحظى أتباعهم بمثل هذه النماذج الفريدة من أئمة أهل البيت عليهم السلام
.
والإمام المهدي الذي كان يتمّ التمهيد لولادته وإمامته ، رغم مراقبة الطغاة وترقّبهم لذلك ، كان المصداق الثالث للإمامة المبكّرة ، فلا غرابة في ذلك بعد استيناس الأمة بنموذجين من هذا النوع من الإمامة ، على الصعيد الإسلامي العام وعلى الصعيد الشيعي الخاص .
من هنا كان الظرف الذي يحيط بالإمام الهادي عليه السلام
ظرفاً انتقالياً من مرحلة الإمامة الظاهرة إلى الإمامة الغائبة التي يُراد لها أن تدبّر الأمر ومن وراء الستار ويراد للأُمّة أن تنفتح على هذا الإمام وتعتقد به وتتفاعل معه رغم حراجة الظروف .
فهو الظرف الوحيد لإعداد الأمة لاستقبال الظرف الجديد ولا سيّما إذا عرفنا أنّ الإمام الهادي هو السابع من تسعة أئمة من أبناء الحسين ، والمهدي الموعود هو التاسع منهم وهو الذي مهّد لولادة حفيده من خلال ما خطط له من زواج خاص لولده الحسن العسكري دون أي إعلان عن ذلك ، فلا توجد إلاّ مسافة زمنية قصيرة جداً ينبغي له اغتنامها للإعداد اللازم والشامل .
إذن ما أقلّ الفرص المتاحة للإمام الهادي عليه السلام
للقيام بهذا العبء الثقيل حيث إنّه لابد له أن يجمع بين الدقّة والحذر من جهة ، والإبلاغ العام ليفوّت الفرص على الحكّام ويعمّق للأمة مفهوم الانتظار والاستعداد للظهور والنهوض بوجه الظالمين ولا أقل من إتمام الحجّة على المسلمين ولو بواسطة المخلصين من أتباعه عليه السلام
.
ومن هنا كان على الإمام الهادي عليه السلام
تحقيقاً للأهداف الكبرى أن يتجنب كل إثارة أو سوء ظن قد يوجّه له من قِبل الحكّام المتربّصين له ولأبنائه من أجل أن يقوم بإنجاز الدور المرتقب منه وهو تحقيق همزة الوصل الحقيقية بين ما حقّقه الأئمة الطاهرون من آبائه الكرام وما سوف ينبغي تحقيقه بواسطة ابنه وحفيده عليهما السلام
؛ ولهذا لم يُمهل الإمام الحسن العسكري سوى ست سنين فقط وهي أقصر عمر للإمامة في تاريخ أهل البيت عليهم السلام
إذ دامت إمامة الإمام علي عليه السلام
ثلاثين سنة ، والإمام الحسن السبط عشر سنين ، والإمام الحسين عشرين سنة ، والإمام زين العابدين خمساً أو أربعاً وثلاثين سنة .
والإمام الباقر تسع عشرة سنة ، والإمام الصادق أربعاً وثلاثين سنة ، والإمام الكاظم خمساً وثلاثين سنة ، والإمام الرضا عشرين سنة ، والإمام الجواد رغم قصر عمره كانت إمامته سبع عشرة سنة ، والإمام الهادي أربعاً وثلاثين سنة .
وتأتي في هذا السياق كل الإجراءات التي قام بها الإمام الهادي عليه السلام
من الحضور الرتيب في دار الخلافة وما حظي به من مقام رفيع عند جميع الأصناف والطبقات بدءاً بالأُمراء والوزراء وقادة الجيش والكتّاب وعامّة المرتبطين بالبلاط ـ كما سوف يأتي توضيحه فيما بعد إن شاء الله تعالى ـ وهكذا كل ما قام به بالنسبة للجماعة الصالحة ، التي سوف نفصّل الحديث عنها في فصل لاحق إن شاء الله تعالى .