عِبَادَ اللهِ، إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اللهِ إِلَيْهِ عَبْداً
أَعَانَهُ اللهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَاسْتَشْعَرَ الْحُزْنَ، وَتَجَلْبَبَ
الْخَوْفَ(1)،
فَزَهَرَ مِصْبَاحُ الْهُدَى(2)
فِي قَلْبِهِ، وَأَعَدَّ
____________
1. استشعر: لبس الشعار وهو مايلي البدن من اللباس. وتجلْبَبَ: لَبِسَ
الجِلْباب وهو ما يكون فوق جميع الثياب، وقد سبق تفسيرها.
2. زَهَرَ مصباحُ الهدى: تلالا وأضاءَ.
الْقِرَى(1)
لِيَوْمِهِ النَّازِلِ بِهِ، فَقَرَّبَ عَلَى نَفْسِهِ الْبَعِيدَ، وَهَوَّنَ
الشَّدِيدَ، نَظَرَ فَأَبْصَرَ، وَذَكَرَ فَاسْتَكْثَرَ، وَارْتَوَى مِنْ
عَذْب فُرَات سُهِّلَتْ لَهُ مَوَارِدُهُ، فَشَرِبَ نَهَلاً(2)،
وَسَلَكَ سَبِيلاً جَدَداً(3).
قَدْ خَلَعَ سَرَابِيلَ الشَّهَوَاتِ، وَتَخَلَّى مِنَ الْهُمُومِ،
إِلاَّ هَمّاً وَاحِداً انْفَرَدَ بِهِ، فَخَرَجَ مِنْ صِفَةِ الْعَمَى،
وَمُشَارَكَةِ أَهْلِ الْهَوَى، وَصَارَ مِنْ مَفَاتِيحِ أَبْوَابِ الْهُدَى،
وَمَغَالِيقِ أَبْوَابِ الرَّدَى.
قَدْ أبْصَرَ طَرِيقَهُ، وَسَلَكَ سَبِيلَهُ، وَعَرَفَ مَنَارَهُ،
وَقَطَعَ غِمَارَهُ(4)،
وَاسْتَمْسَكَ مِنَ الْعُرَى بِأَوْثَقِهَا، وَمِنَ الْحِبَالِ
بِأَمْتَنِهَا، فَهُوَ مِنَ الْيَقِينِ عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ الشَّمْسِ، قَدْ
نَصَبَ نَفْسَهُ للهِ ـ سُبْحَانَهُ ـ فِي أَرْفَعِ الاُْمُورِ، مِنْ
إِصْدَارِ كُلِّ وَارِد عَلَيْهِ، وَتَصْيِيرِ كُلِّ فَرْع إِلى أَصْلِهِ.
مِصْبَاحُ ظُلُمَات، كَشَّافُ غَشَوَات، مِفْتَاحُ مُبْهَمَات، دَفَّاعُ
مُعْضِلاَت، دَلِيلُ فَلَوَات(5)،
يَقُولُ فَيُفْهِمُ، وَيَسْكُتُ فَيَسْلَمُ.
____________
1.
القِرَى ـ بالكسر ـ : ما يُهَيّأ للضيف، وهو هنا العمل الصالح يهيّئه للقاء
الموت وحلول الاجل. 2. النّهَلُ: أول الشرب، والمراد: أخذ حظاً لا يحتاج معه
إلى العمل، وهو الشرب الثاني.
3. الجَدد ـ بالتحريك ـ : الارض الغليظة، أي: الصلبة المستوية، ومثلها
يسهل السير فيه.
4. الغِمار: جمع غَمْر ـ بالفتح ـ وهو معظم البحر، والمراد أنه عبر بحار
المهالك إلى سواحل النجاة.
5. الفَلَوَات: جمع فَلاة، وهي الصحراء الواسعة، مجاز عن مجالات العقول
في الوصول إلى الحقائق.
قَدْ أَخْلَصَ للهِ فَاسْتَخْلَصَهُ، فَهُوَ مِنْ مَعَادِنِ دِينِهِ،
وَأَوْتَادِ أَرْضِهِ.
قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْعَدْلَ، فَكَانَ أَوَّلَ عَدْلِهِ نَفْيُ
الْهَوَى عَنْ نَفْسِهِ، يَصِفُ الْحَقَّ وَيَعْمَلُ بِهِ، لاَ يَدَعُ
لِلْخَيْرِ غَايَةً إِلاَّ أَمَّهَا(1)،
وَلاَ مَظِنَّةً(2)
إِلاَّ قَصَدَهَا، قَدْ أَمْكَنَ الْكِتَابَ مِنْ زِمَامِهِ(3)،
فَهُوَ قَائِدُهُ وَإِمَامُهُ، يَحُلُّ حَيْثُ حَلَّ ثَقَلُهُ(4)،
وَيَنْزِلُ حَيْثُ كَانَ مَنْزِلُهُ.
[صفات الفساق]
وَآخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالمِاً وَلَيْسَ بِهِ، فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ
مِنْ جُهَّال وَأَضَالِيلَ مِنْ ضُلاَّل، وَنَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ
حبالِ غُرُور، وَقَوْلِ زُور، قَدْ حَمَلَ الْكِتَابَ عَلَى آرَائِهِ،
وَعَطَفَ الْحَقَّ(5)
عَلى أَهْوَائِهِ، يُؤْمِنُ مِنَ الْعَظَائِمِ، وَيُهَوِّنُ كَبِيرَ
الْجَرَائِمِ، يَقُولُ: أَقِفُ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ، وَفِيهَا وَقَعَ،
وَيَقُولُ: أَعْتَزِلُ الْبِدَعَ، وَبَيْنَهَا اضْطَجَعَ، فَالصُّورَةُ
صُورَةُ إِنْسَان، وَالْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَان، لاَ يَعْرِفُ بَابَ الْهُدَى
فَيَتَّبِعَهُ، وَلاَ بَابَ الْعَمَى فيَصُدَّ عَنْهُ، فَذلِكَ مَيِّتُ
الاَْحْيَاءَ!
____________
1.
أمّها: قَصَدَها.
2. مظنّة: أي موضع ظنّ لوجود الفائدة.
3. أمْكَنَهُ من زِمامِهِ: تمثيل لانقياده إلى أحكامه، كأنه مطية
والكتاب يقوده إلى حيث شاء.
4. ثَقَلُ المسافر ـ محرّكةً ـ : متاعه وحَشَمه; وثَقَلُ الكتاب: ما
يحمل من أوامرَ ونَوَاه.
5. عَطَفَ الحقّ: حمل الحقّ على رغباته، أي: لا يعرف حقّاً إلا إياها.
[عترة النبي]
(فَأَيْنَ
تَذْهَبُونَ)؟
و
(أَنَّى
تُؤْفَكُونَ)(1)!
وَالاَْعْلاَمُ(2)
قَائِمَةٌ، وَالاْيَاتُ وَاضِحَةٌ، وَالْمَنَارُ(3)
مَنْصُوبَةٌ، فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ(4)؟
بَلْ كَيْفَ تَعْمَهُونَ(5)
وَبَيْنَكُمْ عِتْرَةُ(6)نَبِيِّكُمْ؟
وَهُمْ أَزِمَّةُ الْحَقِّ، وَأَلْسِنَةُ الصِّدْقِ! فأَنْزِلُوهُمْ
بِأَحْسَنِ مَنَازِلِ القُرْآنِ، وَرِدُوهُمْ وُرُودَ الْهِيمِ الْعِطَاشِ(7).
أَيُّهَا النَّاسُ، خُذُوهَا عَنْ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ(صلى الله عليه
وآله): «إِنَّهُ يَمُوتُ مَنْ مَاتَ مِنَّا وَلَيْسَ بِمَيِّت، وَيَبْلَى
مَنْ بَلِيَ مِنَّا وَلَيْسَ بِبَال»، فَلاَ تَقُولُوا بِمَا لاَتَعْرِفُونَ،
____________
1.
تُؤفَكُون: تُقْلبون وتُصرفون، بالبناء للمجهول.
2. الاعلام: الدلائل على الحق من معجزات ونحوها.
3. المنار: جمع منارة.
4. يُتاه بكم: من التّيه بمعنى الضلال والحَيْرة.
5. تَعْمَهون: تتحيّرون.
6. عِتْرَة الرّجلِ: نَسْلُه ورَهْطُه. 7. رِدُوهم وُرُودَ الهيمِ
العِطاش: أي هَلُمّوا إلى بحار علومهم مسرعين كما تسرع الهيم ـ أي الابل
العطشى ـ إلى الماء.
فَإنَّ أَكْثَرَ الْحَقِّ فِيَما تُنْكِرُونَ، وَاعْذِرُوا مَنْ لاَ حُجَّةَ
لَكُمْ عَلَيْهِ ـ وَأَنَا هُوَ ـ أَلَمْ أَعْمَلْ فِيكُمْ بِالثَّقَلِ
الاَْكْبَرِ(1)!
وَأَتْرُكْ فِيكُمُ الثَّقَلَ الاَْصْغَرَ! وَرَكَزْتُ فِيكُمْ رَايَةَ
الاِْيمَانِ، وَوَقَفْتُكُمْ عَلَى حُدُودِ الْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ،
وَأَلْبَسْتُكُمُ الْعَافِيَةَ مِنْ عَدْلِي، وَفَرَشْتُكُمُ(2)
المَعْرُوفَ مِنْ قَوْلي وَفِعْلي، وَأَرَيْتُكُمْ كَرَائِمَ الاَْخْلاَقِ
مِنْ نَفْسِي؟ فَلاَ تَسْتَعْمِلُوا الرَّأْيَ فِيَما لاَ يُدْرِكُ قَعْرَهُ
الْبَصَرُ، وَلاَ تَتَغَلْغَلُ إِلَيْهِ الْفِكَرُ.
منها: [في الظنّ الخاطئ]
حَتَّى يَظُنَّ الظَّانُّ أَنَّ الدُّنْيَا مَعْقُولَةٌ عَلَى بَنِي
أُمَيَّةَ(3)،
تَمْنَحُهُمْ دَرَّهَا(4)،
وَتُورِدُهُمْ صَفْوَهَا، وَلاَ يُرْفَعُ عَنْ هذِهِ الاُْمَّةِ سَوْطُهَا
وَلاَ سَيْفُهَا، وَكَذَبَ الظَّانُّ لِذلِكَ. بَلْ هِيَ مَجَّةٌ(5)
مِنْ لَذِيذِ الْعَيْشِ يَتَطَعَّمُونَهَا بُرْهَةً، ثُمَّ يَلْفِظُونَهَا
جُمْلَةً!
____________
1.
الثّقَل ـ هنا ـ : بمعنى النفيس من كل شيء وفي الحديث عن النبىِ(صلى الله
عليه وآله وسلم) قال: «تركتُ فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي» أي: النفيسين.
2. فرَشْتُكُمْ: بَسَطْتُ لكم.
3. معقولة عليهم: مسخّرة لهم، كأنّهم شدّوها بعقال كالناقة.
4. تمنحهم دَرّها: أي لبنها.
5. مَجّة ـ بفتح الميم ـ : مصدر مرة من «مجّ الشراب من فيه» إذا رَمَى
بِهِ.
المصدر:
نهج البلاغة