الاتّجاه الثالث: الإمام الكاظم والتحدّيات الداخلية

وهنا ندرس بعض مواقف الإمام موسى الكاظم عليه السلام من جملة من التحدّيات الداخلية التي كان لها تأثير سلبي مباشر على المذهب، ومنها تحدّيات السلطة لمرجعية الإمام العلمية.

الموقف الأول: إنّ موقف الإمام الكاظم عليه السلام من أخيه عبد الله (الأفطح) لم يكن موقفاً عدائياً سافراً رغم أنه ادّعى الإمامة لنفسه(٢) بعد أبيه. وهذا

ــــــــــــ

(١) تجد هذه النماذج وغيرها في فصل تراثه عليه‌السلام .

(٢) بصائر الدرجات: ٢٥١، ح ٤، وأصول الكافي: ١/٣٥١، ح ٧، واختيار معرفة الرجال: ٢٨٢ ح ٥٠٢، والإرشاد: ٢/٢٢١.


الادعاء الخطير يؤثر على الوجود الشيعي ومستقبله، فلم يكرّس عليه السلام كامل جهده وطاقاته لحلّ هذه المشكلة، ولم يسلك مساراً يضغط به من الخارج على الخصم، ولم يفرض على الصف الشيعي أن ينقسم إلى فريقين إلى أنصار وخصوم.

كما أنه عليه السلام لم يدخل الحرب النفسية ولا الكلامية وإنما عالج هذا الشرخ الجديد بأسلوب هادئ، وكفيل بعلاج هذه الأزمة. ويتضح ذلك مما يلي:

أوّلا: ترك للشيعة وعلمائها الحرية في أن تكتشف بنفسها كفاءة هذا المدّعي وعلميّته أو تكتشف غيرها من الطاقات فيما إذا كان يمتلكها، عن طريق الفحص المباشر، أو المقارنة بينه وبين الإمام موسى عليه السلام كما حدث مع مؤمن الطاق وهشام بن سالم الذين تقدم ذكرهما.

ثانياً: أبقى الإمام عليه السلام علاقته مع أخيه ودّية ولم يجعل من المشكلة سبباً للمقاطعة بدليل أنه دعاه للحضور في منزله كما تذكره الرواية التي سنذكرها بعد قليل.

ثالثاً: استخدم الإمام عليه السلام أسلوب المعجزة التي تميّزه عن عبد الله باعتباره عليه السلام إماماً مفترض الطاعة فقام عليه السلام بإثبات ذلك أمام جمع من خواصّ الشيعة. فقد قال المفضّل بن عمر: لمّا قضى الصادق عليه السلام كانت وصيّته في الإمامة إلى موسى فادّعى أخوه عبد الله الإمامة وكان أكبر ولد جعفر في وقته ذلك هو المعروف بالأفطح فأمر موسى عليه السلام بجمع حطب كثير فيوسط داره فأرسل إلى أخيه عبد الله يسأله أن يصير إليه فلمّا صار عنده ومع موسى عليه السلام جماعة من وجوه الإمامية وجلس إليه أخوه عبد الله ، أمر موسى عليه السلام أن يجعل النار في ذلك الحطب كله فأحترق كله ولا يعلم الناس السبب فيه، حتى


صار الحطب كله جمراً ثم قام موسى عليه السلام بثيابه في وسط النار وأقبل يحدّث الناس ساعة، ثم قام فنفض ثوبه ورجع إلى المجلس، فقال لأخيه عبد الله:(إن كنت تزعم أنك الإمام بعد أبيك فاجلس في ذلك المجلس) ، فقالوا: رأينا عبد الله قد تغير لونه، فقام يجرّ رداءه حتى خرج من دار موسى عليه السلام (١) .

والجدير بالذكر أن الطائفة التي اتبعته قد رجع أكثرهم بعد ذلك إلى القول بإمامة أخيه (موسى الكاظم) لمّا تبيّنوا ضعف دعواه وقوّة رأي أبي الحسن (موسى الكاظم) ودلالة حقه، وبراهين إمامته(٢) .

الموقف الثاني: موقف الإمام موسى عليه السلام من العناصر التي تصدّت للمرجعية العلمية والدينية، وأصبحت فيما بعد مرجعاً عاماً يُدعم من قبل السلطان ويحظى برعايته، ليجعل منهم أدوات طيّعة تبرّر له سلوكه وخلافته.

وانطلاقاً من ضرورة الحفاظ على الصيغ الأصيلة ، ومخافة أن تتعرض الشريعة للتحريف بسبب الاتّجاهات والمناهج التي وجدت في مدرسة الخلفاء.

تصدّى الإمام موسى الكاظم عليه السلام لتلك المناهج والاتّجاهات وحاول أن يسلبها الصيغة الشرعية الزائفة التي كان يتمتع بها أصحابها حينما جعلوا في مواقع الفتيا في الدولة.

قال يونس بن عبد الرحمن: قلت: لأبي الحسن الأول (وهو الإمام الكاظم): بِمَ أُوحد الله ؟

فقال عليه السلام :(يا يونس لا تكونن مبتدعاً، من نظر برأيه هلك، ومن ترك أهل بيت نبيّه ضلّ، ومن ترك كتاب الله وقول نبيّه كفر) (٣) .

ــــــــــــ

(١) الخرائج والجرائح: ١/٣٠٨، ح ٢ وعنه في بحار الأنوار: ٤٨ / ٦٧ و٤٧ / ٢٥١.

(٢) الإرشاد: ٢ / ٢١٠ ـ ٢١١.

(٣) أصول الكافي: ١ / ٥٦ ـ ٥٨.


وقال الإمام الكاظم في موضع آخر:(مالكم والقياس؟! إنمّا هلك من هلك من قبلكم بالقياس) (١) .

ولم يقتصر الإمام عليه السلام على إدانة هذا الاتّجاه فحسب وإنما حاول أن يعرّف مواقع الخطأ والانحراف بشكل تفصيلي.

فعن محمد الرافعي أنه قال: كان لي ابن عم يقال له (الحسن بن عبد الله) وكان زاهداً وكان من أعبد أهل زمانه، وكان يلقاه السلطان، وربّما استقبله بالكلام الصعب يعظه ويأمر بالمعروف، وكان السلطان يحتمل له ذلك لصلاحه.

فلم يزل على هذه الحالة، حتى كان يوماً دخل أبو الحسن موسى عليه السلام المسجد فرآه فأدناه إليه، ثم قال له: (يا أبا علي، ما أحبّ إليَّ ما أنت فيه وأسرّني بك، إلاّ أنه ليست لك معرفة، فاذهب فاطلب المعرفة .

قال: جعلت فداك وما المعرفة؟

قال:اذهب وتفقّه واطلب الحديث .

قال: عمن ؟

قال:عن مالك بن أنس وعن فقهاء أهل المدينة، ثم اعرض الحديث علي ّ.

قال: فذهب فتكلّم معهم، ثم جاءه فقرأه عليه فأسقطه كلّه)(٢) .

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١/٥٧، ح ١٦ وعنه في وسائل الشيعة: ٢٧/٤٢ ح ١٥.

(٢) بصائر الدرجات: ٢٥٤، و ط: ٢/٢٧٤، ح٦، وأصول الكافي: ١/٣٥٢، ح ٨ باسم محمد الواقفي، والإرشاد: ٢/٢٢٣ باسم الرافعي وعنه في إعلام الورى: ٢/١٨، ١٩، وكشف الغمة: ٣/١٣، ١٤، والخرائج والجرائح: ٢/٦٥٠ ح٢، وفي بحار الأنوار: ٤٨/٥٢، ح ٤٨ عن البصائر والإرشاد والإعلام والخرائج.